title
الحب في القرية يأتي دون مناسبة، تلقائيًا وبسيطًا؛ هو دهشة إعجاب لشيء لم نتعوّده!! وهذا ما حصل لي ذات يوم وأنا طفل أصعد سنواتي الخمس، كنت ألعب مع مجموعة من الصبيان، نركض ونصرخ ونتشاجر ونضحك، ولا نفكر بأي شيء حتى نلمح أحد أهالينا يدعونا من بعيد بإشارة من يده؛ نستكين هادئين عندما يمر رجل كبير بجوارنا ويزأر بنا، أو يكح.
ذات ضحى أقبلت من بعيد سيارة غريبة؛ وعند وصولها قريبًا منا، تراكضنا خلفها وسط الغبار المتطاير، توقفت أمام أحد البيوت، أخذنا ندور حولها، نزل رجل طويل يضع عقالًا فوق شماغه المنقط بالأسود وتتدلى فوق ظهره ذؤابتان سوداوان، ابتسم لنا وهز إصبعه قائلًا:
ــ لا أحد (يقرّب) من السيارة!
هززنا رؤوسنا جميعًا، نزل من الجهة الأخرى امرأة تلبس عباءتها، وتغطي وجهها بغطاءٍ شفاف فرأينا أسنانها وهي تبتسم لنا، باب الجيران مفتوح، توجهت إليه المرأة ودخلت، أما الرجل فدار ووقف خلف السيارة، وبمفتاح صغير فتح صندوقها الذي يشبه غارًا صغيرًا، وأمسك بشنطة حمراء مخططة بالأسود، لها يد جلدية، وأقفال صفراء لامعة، حملها بيده وهو يغلق الصندوق، ويهزه دون أن يتكلم محذرًا إيانا من الاقتراب من السيارة! توجه وتنحنح ودخل البيت، تزاحمنا حول السيارة ننظر إلى داخلها، ونحن نضع أكفنا حول عيوننا لتجاوز الزجاج إلى داخل السيارة؛ رأيت مقعدين منفصلين في الأمام، لونهما بني مختلف عن لون السيارة الأزرق من الخارج، وفي الخلف مقعد طويل بلون بني أيضًا، رأيت في كل عجلة طاسة مدورة بيضاء ملصقة في الوسط تمامًا، للسيارة عينان جاحظتان كعيون الضفادع، إلا أنهما من زجاج؛ وأنا أدور مع الأولاد، سمعنا بنت الجيران تطل برأسها وتقول:
ــ تعالوا كلكم!
ركض الجميع إلى الداخل، وإذا بالمرأة القادمة تقف دون عباءة ودون غطاء الرأس؛ أشارت لنا وعيوننا تتسع دهشة لجمالها، وثوبها ووجهها وحمرة شفتيها، وشعرها الطويل؛ أن نُكوِّنَ صفًا واحدًا أمامها، قالت:
ــ القصير أولًا، وضحكت، كنت من أطول الصبيان، فوقفتُ قبل اثنين فقط، كانت تمسك بيدها كيس قماش ملون منفوخ من الأسفل وتلوح به أمامنا. انتظمنا في صف واحد دون حركة أو صوت.
كانت بعض النسوة من الجارات يدخلن من الباب صارخات:
ــ يا أهل البيت!
فكانت المرأة ترد بسرعة:
ــ يا هلا! وتترك مكانها في أول الصف وتذهب لملاقاة الزائرة والسلام عليها، هكذا حصل مع أمي عندما دخلت، بعد أن سلمت على امرأة ورأت صفنا المنتظم قالت:
ـ ما شاء الله عليكم!
لا أعرف ما تقصد بذلك، لكني تابعتها وهي تدخل إلى جلسة الليوان حيث تنطلق أصوات النساء بأحاديث كثيرة، عادت المرأة إلى مكانها أمامنا، وبيدها أشارت إلى أول الواقفين. اقترب منها، فسألته عن اسمه وطلبت منه أن يمد يديه، ويفتح كفيه، وضعت في راحة كل يد حلاوة واحدة مغطاة بورق لامع أخرجته من الكيس، كان الطابور يتحرك ببطء؛ ونحن ندير رؤوسنا يمنة ويسرة؛ لنرى الكفين ولون الحلاوتين؛ وقد استبد بنا الضيق والجزع لبطء مشي الطابور، وقد ضحكنا كلنا عندما وقف الولد(ص) أمام المرأة وبدلًا من أن يمد يديه، أخذ يمسح مخاطه بكمه حتى قالت له المرأة بقوة:
ـ افتح يديك!
جاء دوري، وكنت واثنين فقط نلبس الطواقي؛ لكن طاقيتي مشغولة بخيوط القصب. وقفت أمام المرأة وأنأ أنظر إلى وجهها الأبيض، وجدائلها السوداء. كنت أنتظر أن تتكلم لأرى أسنانها البيضاء الصغيرة، التفتت إلى النساء وقالت:
ــ من (هو له) هذا الولد المزيون؟
قرقع قلبي خجلًا، والنساء يمددن رقابهن، وأمي تقف ملوحة:
ـ هذا ولدي!
قالت:
ــ قرّب!
اقتربت، وفاحت رائحة عطر غريب، أحنت ظهرها وصار وجهها قريبًا مني، أخذت عيناي ترمشان من الخجل، اقتربت أكثر وأمسكت برأسي من الخلف، وسحبتني نحوها، ووضعت شفتيها الحمراوين على شفتي. كدت أسقط من الخوف والخجل. واعتدلت وقالت:
ــ يدك.
لم أدرك ما تقول، فقد كانت أصابعي تتلمس شفتي؛ هزتني من كتفي وقالت:
ـ أفلت يديك!
ضحكت النساء اللائي يتابعن الحدث، فتحت راحتي فوضعت في كل واحدة حبتين لامعتين، وكأنها تصرفني بيدها، وتدعو الاثنين المتبقين، توجهت في ظل الجدار وأصابعي ما زالت تتلمس شفتي، وأنفي يمتلئ بالعطر.
في المساء وأنا في البيت سألت أمي من هي؟ قالت: هذي ابنتهم التي تزوجت في المدينة، ثم قالت لي نصيحتها الدائمة:
ــ شفت لمّا الولد يصير نظيف يحبونه الناس.
وكنت أحب تلك المرأة من قلبي!