منذ بداية وعيي بذاتي كنت موضِعاً لبوله، لا أتذكر من ماضيّ شيئاً أبعد من ذلك، أتساءلُ عن سر استسلامي المُطْلَق! لِمَاذا أُبقِي على وجهي في هذا الإتجاهِ ليتواصل سقوطُ بوله على جبهتي ثم يتطاير على شعري و تغضنات وجهي الممتقع؟ لماذا أفتقد رغبة المقاومة؛ مثل ورقة صغيرة سقَطَتْ من شجرة في النهر فاستسلمَتْ لتياره ليأخذها حيث يشاء، هل ينبغي أن أعينه بثباتي الأبدي على هذا الوضع ليحفر بإزميل بوله المنهمرِ على صفحات وجهي حروف الهَوان؟!
و الآن؛ هل سيغضِبُه- يا ترى- أن أميل برأسي قليلاً ليسقُط بولُه الذهبيّ على الترابِ إلى جانبي؟! يوسوس لي صوتٌ يتعاظمُ في داخلي وتزداد حدّته يوما بعد يوم: "هذا ليس المَوضِع المناسب لك".
ماذا لو تظاهرتُ بالإغماءة فمال رأسي جانبا؟ أتُراه سيسمح لي بقليل من الرّاحة؟
فكرتُ طويلا حتى اختنقنتُ بأفكاري، قرّرت أن أغامر، ليست سوى حياةٍ بائسة، مجردُ (احتمال) حياةٍ أفضل أكثر ُقيمة منها، مِلتُ برأسي -أخيراً - على كتفي الأيسر وعيناي مغمضتان في انتظار ما سيحلّ بي في عالم قذر كهذا.
لم يحدث شي! سوى أني تنفست للمرة الأولى هواءً غير ممتزجٍ ببوله، و ترقّبت قَلِقاً، فقد تتأخر قليلا نتيجة ما فعلت.
صدى صوت انهمار البولِ يكرر نفسه و يحاصر الجهات، و الواقف فوقي لا زال يرسل شلال بولِه المنهمر منذ الأزل؛ يسقي به التراب الأصفر إلى جانب عنقي، تتطاير قطراتٌ منه على كتفي و عنقي، لا زلت أشمّ رائحة بوله، إلا أن حالي الآن صار أفضل بكثير مما كان عليه قبل لحظات، لا قطراتٍ من بوله تدخل أنفي فأطردها بزفيري و يتسلل بعضها إلى حلقي، بدأ صدري المثخنُ بالضيق في التعرف على الشعور بالهواء البارد وتذوقِ طعم الإرتياح.
مضى بعض الوقت، دون أن يبدو أني أثرت غضبه، ما شجّعني على أن أفتح جزءً من عينيّ لأستكشف المكان.
لا أرى نهايةً لهذا الظلام الجاثم على صدر المكان، غير أنّ خيطاً من ضوء نحيل و طويل يخترق الظلام ليفضح بعض التفاصيل الصاعقة، دققت النظر، فلاح لي آخرون مستلقين - مثلي- على ظهورهم، يقف فوقهم رجالٌ مصوبين إلى وجوهم خيوطا صفراء منهمرةً دون انقطاع، أطبقت جفنيّ بسرعة؛ اللعنة! ما الذي يحصل في هذا الجحيم؟! لماذا يتبوّلون علينا؟! من نحنُ ومن هؤلاء؟! ما الذي فعلناه لنستحق ما يحصل؟! و كم سيطول مكوثنا على هذه الحال؟!
ينتشر الرعب بامتداد الظلام متوزعا على وجوه النائمين على قفاهم، ورائحة البول الطاغيةُ تُفسِدُ في داخلي رغبةَ المقاومة، يتعاظمُ الخوف في قلبي، و يوشك الحزن أن يُسلمني لليأس، هل حاول أحدٌ قبلي مقاومة هذا الواقع؟! ترى ماذا كان مصيره؟! هل أردوه قتيلا؟! بخلاف ذلك، كان الضياء الضئيل المتراقص يغريني، تلوّح لي ابتسامته من بعيد، وتزيح عن عقلي غشاوة الخوف قليلا، وكأنّ الضوء النحيل يهمس لي: لو أن هذا الواقف فوقك يعلمُ بكل شيءٍ - حتى ما يجول في نفسك- كما تظنُّ لَعلم أنك تخدعُه الآن بإمالة رأسك جانبا، أتراه يكترثُ لو علم بتهرّبك من استقبال بوله بوجهك؟! أولا يُحْتَمَل أن يكون مجبوراً هو الآخر على ما يفعله؟!
كم مضى من الوقتِ منذ أن بدأتُ في بَذْرِ تساؤلات تنمو أغصانها وتورق في عقلي الآن؟ و هل يفكر الآخرون مثلي؟! أم يخافون من أفكارهم فيطردونها كما يطردون ذبابة تشاغب وجوههم المبلولة بالبول؟ هل كنت أمارس نوعا من التفكير حين كنت أتلقى البول بوجهي أم أن عقلي كان مجرد صفحة بيضاء تتقيأُ الفراغ و الحزن، فيما كان شعوري بالامتعاض يستنزف تركيزي؟
فتحت عينيّ بحذر مرّة أخرى محاولا البحث عن إجابات أُطعمُ بها أسئلتي الجوعى، رميت ببصري إلى البعيد فرأيت ظلاماً يطلي المكان والإنسان بسواده، و رميتُ بسمعي فوجدت أصواتَ انهمار البول ترنّ على الوجوه. لكنْ ثمة ضوءٌ ضعيفٌ تُرسِلُه جهةٌ ما إلى هذا المكان، و لو أنّي استطعت النهوضَ لتبيّنت- ربّما- من أين يتهادى ذلك الضوء الراقص النحيل، لكن؛ هل يحقّ لي النهوض؟ أليس لي قدمان مثل هذا الذي يتبوّل على وجهي؟!
أفتحُ عينيّ أكثر، أنتبه إلى رجلٍ مستلقٍ على ظهره بجواري، عينُهُ تدورُ باتجاهي و هو يحاول تحريك شفتيه! هل يحاول أن يزمّهما بقوّة كي لا يدخل البولُ إلى فمه أم تراه يحاول أن يقول لي شيئاً؟!
دققت النظر في ملامح الرجل البائلِ عليه فوجدته نسخة أخرى مطابقةً للرجل الواقف فوقي! ألقيتُ بنظرة أوسع متفحصاً وجوه الرجال الواقفين قريبا مني فوجدتهم نسخاً عن رجل واحد ربّما يكون هذا الرجل الواقف فوق جسدي!
عدت بنظري إلى الرجل المستلقي إلى جانبي فوجدته لا يزال يدير عينه باتجاهي ويحرك شفتيه ويضمهما بقوّة، وأخيرا قرر أن يُقدِم على التضحية من أجل قول ما أراد قوله، سمعت كلماته ورأيتها تخرج من بين شفتين تقاومان انهمار البول: " أعد وجهك إلى حيث كان، لا تُغضِبْ الرجل"! قالها بصوت خفيض غاضب.
لم أعد بوجهي إلى حيث أَستقْبِلُ به خيط البول المنهمر، لكنّي أغلقتُ عينيّ لكي لا أرى ملامح جاري المنفجرةِ رعبا. قررت بعد فترة من التفكير ألا أنظر إلى وجهه مرة أخرى، وأن استكشافي لما يجري في المكان يجب أن يكون في الجهة الأخرى، رفعت رأسي و أدرته بسرعة إلى الجهة المقابلة عابرا خيط البول المنهمر.
على يميني ينبطح رجلٌ آخرُ يتلقى البول بوجهه، من طَرَفِ عينِه كان يراقبُ تمرّدَ رأسي، لكنه لم يكن خائفا كالأول، شجعتني ابتسامته الجميلة، خلقت في روحي فرحا يشبه موجاتِ ذاك الضوء النحيل الراقص.
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى نَمت بيننا لغةٌ صامتة من ودّ، أشعر أنّه يشبهني، ثمة شيء مشتركٌ تلمسه روحي حين أطالع في عينيه وفي صفحات وجهه رغم طبقة البول التي تغطيها، بين روحينا شيء أسميه أخوّةً أو محبّة.
انتظرت طويلا لكي أسمع منه موافقةً على مرافقتي كي نغادر المكان سويا، غير أنه لم يجبني بغير ابتسامته الغارقةِ في البول، لمحتُها تبهتُ وأنا أنهض أخيرا لكي أغادر وحدي، في نظرتي الأخيرة نحوه رأيت حُزنه يخنقُ ابتسامتَه.
هو خلفي الآن، وأنا أسير باتجاه الضوء النحيل الراقص، أتبعه عابراً من خلال الظلام ماراً بالمئات بل بالآلاف من المنبطحين الذين يستقبلون البول بوجوههم، يكبُر هذا الضوءُ كلما عبرت بالمزيد من الناس، يكبر ويزداد جمالا رغم الألم الذي يزعج عينيّ المعتادتين على الظلام، أسمع صوت نداء الضوء الراقص في قلبي مهما علا صوتُ البولِ المنهرِ على آلاف الوجوه، يرتفع البولُ كلّما اقتربتُ من الضّوء، يغطي ركبتيّ، يصلُ إلى فخذيّ، تصطدم قدمي ببعض من ماتوا غرقا في نهرِ البول وتعفنتْ جثثُهم، حتى بعض الواقفين غطاهم البول أيضا و غرقوا، أواصلُ حتّى أنتهي إلى بوابة الضوء دون أن ألتفت إلى الوراء، أتسلّق، ثمّ أخطو خطواتي الأولى خارج الظلام حيث الألوانُ ممزوجةٌ بالضياء.
انتهى ضجيجُ الظلام، غناءٌ هادئٌ لكائنات جميلةٍ أخذ يُدلّل أذنيّ، أسمع صوت خطواتٍ تشبه خطواتي من الخلف فيرتجف قلبي خوفا من أن يكون أحدُ الواقفين من عالم الظلام قد تبعني، بيد أنّه أخي المبتسمُ يربّت على كتفيْ بحنان!
نعبُر سويا النهر الذي يفصلنا عن العالم الآخر فنتحررُ من أوساخنا، نلهو في الماء قليلا، رأيت وجهي أخيراً منعكسا على صفحة الماء، يشبه وجه أخي كثيرا، يمضي وقتٌ طويلٌ ونحن نَسْعدُ بين جنان العالم الآخر. والآن؛ لا شيء يكدرُ صَفْوِي، سوى هواجسَ تراود أخي مؤخراً، تلحُّ على رأسه، فتخلُق فيه رغبةً بأن يستلقي على الأرض فيتبوّل أحدُهم على وجهه!.
زكريا العبّاد.