title
***
تقع مدينة جميلة على شاطئ البحر؛ شوارعها المستقيمة المتقاطعة الواسعة أعطتها رحابة؛ فهي تتقاطع من الغرب إلى الشرق مع شوارع من الشمال إلى الجنوب. ثبتت على نواصيها لوحات خضراء بعدة لغات، سميت بالشارع الأول ثم الثاني فالثالث، أما الشوارع من الجنوب إلى الشمال فقد رقمت بالأعداد؛ شارع 1، شارع 2 وهكذا، الإسفلت لامع تمشي معه السيارات بنظام وكأنها حذرة من تكدير صفو الرَاجِلِين.
البنايات متناسقة، تناطح السحب في علوها؛ وفي الليل تشع كعقود الجواهر. في الشارع الأول الموازي للبحر، وفي ضفته التي لا تملّ من همس الأمواج، تناسقت المقاهي المفتوحة، و(الكازينوهات) البراقة والمطاعم التي تعبق بروائح الأكل الشهي، ومقصورات العصائر اللامعة بسلاسل إضاءاتها التي تغمز للمشاة وكأنها تضحك!
ذات مساءٍ بدا وكأن البحر غاضب؛ إذ أخذت أمواجه تضرب حدّ الرصيف بقوة، وزادت بقذف المياه على بعض كراسيِ المقاهي، وبلّلت ممرّ المشاة العريض؛ تحسّس الرواد من ذلك الهيجان، وأخذوا يغادرون. بدأت المياه فعلًا ترتفع حتى غطت الأرض والكراسي، وممر المشاة، ثم بدأت تزحف إلى الإسفلت. آخر الموجودين هناك قال لزميله الذي أغلق المقهى:
ـ الأمر غريب، اُنظر فقد غمرت المياه جانب الإسفلت، وهي تصعد الحد الفاصل إلى الطرف الآخر!
الرجل الآخر كان يرتعش وهو يغلق آخر أبواب المقهى، ثم يخوض في المياه في طريقه لعبور الشارع.
الشارع الواسع يخلو من السيارات في مسارَيْهِ، والمياه ترتفع، يسود هدوء الأمواج؛ فقد صارت المياه تتدفق بسلاسة، وكمياتها ترتفع وترتفع حتى تلامس جدران البنايات وتسيل من تحت الأبواب المغلقة، ثم تبدأ بعض خطوط الشقوق تتضح على الجدران؛ تبدأ من نهاية المياه وترتفع مشكلة خطوطًا طولية صاعدة إلى الأعلى ثم تنتشر شاملة الحائط كله، مصدرة صوتًا هادئًا ومتواصلًا؛ يقطع ذلك أصوات اِنهيارات الجدران الشمالية في صفوف المباني في الشارع الأول، تتساقط الكتل الإسمنتية وتعلو رشقات المياه بشكل مجنون؛ تغطي الإسفلت والأرضيات وهي تحمل المياه العكرة وتصبغ بها المكان كله. تبدو البنايات عارية من وجهها الشمالي؛ ومع اِنطفاء الأضواء تصبح مثل كهوف ضخمة. المياه تستمر في دخول الأراضي، القواطع؛ وأسقف البنايات تتشقق وتنهار. قبيل الفجر وصل مسار المياه إلى الأساسات المتبقية من كل مباني الشارع الأول، إذ سرعان ما بدأ دوي سقوطها وعلت في الجو كميات هائلة من سحب الغبار. الماء المتسلل يصل الآن إلى إسفلت الشارع الثاني، وأغلب الناس قد أخلوا مقار سكنهم، وحملوا الخفيف والثمين وفرّوا إلى جنوب المدينة. ما حدث لانهيار الشارع الأول، وتحول مساحاته إلى بحر طوال الليل؛ حدث بسرعة في مساحات الشارع الثاني، ووصل الماء إلى أهم وأجمل شوارع المدينة: الشارع الثالث الواسع والمضيء دائمًا المسمى بشارع التجّار، ومع أول لسان صغير من المياه كانت جميع المعارض والدكاكين قد أغلقت بالسلاسل والأقفال الصفراء الضخمة؛ لكن الماء لم ينتبه إلى ذلك وهو يتخطى مَسارَيْ الطريق وينزلق من تحت الأبواب، وتستجيب له الجدران بتشققها، ثم تنهار، وتنهار وتضاف إلى مساحات المياه الضخمة والعكرة.
في الشقة الصغيرة في الدور العاشر من الشارع الرابع، والمرأة الجميلة تخطف أهم ما تحتاج وهي تنظر إلى ألسنة المياه تصل أول شارعهم، وابنها يضحك مطلًا من خلف زجاج الصالة قائلًا لأمه:
ـ ماما، صار البحر كبيرًا وقريبًا من شقتنا!
تمسك بيده، وتجره بقوة وهي تركض تاركة باب الشقة مفتوحًا، وتتجه إلى المصعد وهي تقول:
ـ يا رب! ألحق بسيارتي في القبو!
عندما ركبت سيارتها، مع ابنها، ودموعها تكاد تحجب الطريق، وهي تمضي مسرعة في الشارع رقم 10، سمعت دوي الانهيار، ابنها صرخ:
ـ ماما، سقطت شقتنا.
وهي تضمه، كان ينشج متذكرًا غرفته وألعابه. في ذلك اليوم بدأ الناس يتركون سياراتهم بعد أن تكدست طوابيرها اِبتداءً من الشارع الأول إلى الثلاثين؛ انسحبوا راجلين تاركين بعض الحقائب الكبيرة؛ ودوي الانهيارات، وأصوات الصراخ والبكاء ونتف الأخبار تلاحقهم تباعًا؛ فقد توقف البحر بعد أن غطى كل مساحة الشارع السابع، لكن الانهيارات استمرت متواصلة تقضم شارعًا، شارعًا.
قبيل الفجر سقط من تَعِبَ؛ وواصل المشي آخرون، والبعض كان يمر بالسائرين راكضًا إلى حدود المدينة. اختلط الواصلون بالراكضين مع الحيوانات التي فرت من حظائرها باتجاه البراري. تحصّن مالكو الشاحنات المتوقفة في جنوب المدينة بالرشاشات والبنادق بعد أن اِصْطَفَوا مَنْ دفَعَ أكثر لمكان ركوبه في صناديقها، وفيما كان شاب طويل يركب في الشاحنة بعد أن سلم صاحبها محفظته وحقيبة الجلد الفاخرة والساعة الذهبية وأطقم الأقلام، اِلتفت الطفل إلى الخلف بعينين فزعتين وسأل أمه:
ـ هل سيلحق بنا البحر إلى أي مكان نذهب إليه؟!
الشاحنة تنطلق إلى الصحاري المفتوحة، والسماء الداكنة تمتلئ بالطيور، ومن بعيد الأشجار واقفة، وقد حملت أوراقها خليط الإسمنت والطين.
***