title
.jpg)
في البدء: الرجالُ يتحدثونَ كثيراً في مجالسِهم الخاصةِ وبصوتٍ عالٍ عن بطولاتِهم الجنسيةِ الوهميةِ وانتصاراتِهم على النساءِ في المخادعِ الزوجيةِ ومخادعِ العشقِ، لأن الإناثَ عادةً- بعدَ انتهاءِ المنازلاتِ الغريزيةِ الطبيعيةِ- يكنَّ صامتاتٍ جداً في هذا الشأنِ، ويثرثرنَ كثيراً بعد انقضائهِ في مجالسِهن الخاصةِ عن الفوزِ الحقيقي الذي حققنَهُ على الذكورِ، الذي تكونُ علامتُهُ هدايا الذهبِ المعلقةِ فوقَ أعناقِهن وفي أماكنَ أخرى من أجسادِهن.
- "إذا تنجست- يا سالم- تنجس عدل"
قالَها لي ثمَّ ولّاني ظهرَهُ وذيلَ شعرِهِ الأسودِ الأجعدِ، وأنا كغصنٍ ثملٍ بالماءِ الذي يجري تحتَهُ ويُطهّرُهُ، وبشعاعِ الشمسِ الذي يصلُ إليه قبلَ أن يصلَ إلى الأرضِ ويزيدُهُ طهراً وهو معلقٌ في أعلى شجرتِهِ، وبالنسيمِ الذي يمرجحُهُ وينضو عنه غبارَ بداياتِ الفصولِ والفضلاتِ اليابسةِ التي تكونُ للطيورِ وللحشراتِ التي تحلُّ عليهِ، وبالسكرةِ الكبرى حينَ تمطرُ السماءُ وتقررُ غسلَ جميعِ أشجارِ الأرض.
لقد كنتُ في أعلى حالاتِ طُهري، "حوريٌ" كما يحلو للنسوةِ أن يقلنَ عني وعن كلِّ رجلٍ ماتَ ولمْ يدنسْ جسدَهُ باشتهاءِ واحدةٍ منهنَ، بلْ رجلٌ متطهرٌ جداً اغتسلَ في الميقاتِ الاغتسالَ الأخيرَ وارتدى ملابسَ الإحرامِ البيضاءِ وأرادَ أن يَحُجَّ حِجتَهُ الأخيرةَ في العمرِ وثم يموت.
ولقد كنتُ قبلَ أن يلقي عليَّ كلمتَهُ تلك، المليئةَ بالحكمةِ، سعيداً للغاية، لأنني في الليلةِ الفائتةِ رأيتُ في النومِ وجهَ حبيبتي الجميلةِ الطيبةِ "نوّارة" المغيبةِ عني منذُ سنينَ عديدةٍ، وتحدثتُ معها حديثاً طويلاً ضحكنا خلالَهُ مراتٍ كثيرةٍ وتبادلْنا فيهِ اختبارَ ذكائي وذكائها بأسئلةٍ وأفعالَ كثيرةٍ، وأخذتُ في ختامِ اللقاءِ هديةً منها كانتْ عبارةً عن كتابِ شعرٍ لشاعرٍ عربي عذري.
حبيبتي نوّارة، المدفونُ حبُّها في دمي منذُ سنينَ عديدةٍ حتى آمنتُ أنني لن أراها ثانيةً إلا إذا أدخَلَنا اللهُ الجنةَ معاً، صحيحٌ أنني أحببتُها حباً عفيفاً طاهراً، ولكنَّ جملتَهُ تلكَ أنبتتْ في نفسي فجأةً حبَّ أن أتنجسَ معها، أن نتنجسَ سوياً نجاسةً كبرى تليقُ بعاشقَينِ كبيرَينِ محرومَينِ من الوصلِ لسنينَ عديدة، فنجاسةُ الإنسانِ لوحدهِ لا قيمةَ لها، نجاسةٌ تورّثُ الهمَّ والغمَّ وتعجّلُ بالكآبةِ وتزيدُها أحياناً إن كانتْ موجودةً في الأصلِ، نجاسةٌ مرذولةٌ مبتذلةٌ معيبةٌ لا بطولةَ فيها ولا فخرَ، بل إنها قد تأتي أحياناً لتفاهتِها بدونِ استدعاءٍ أو مناداةٍ، كالاحتلامِ الليليِ لشابٍ ينكحُ ممثلةً جميلةً أو نجمةً سينمائيةً مشهورةً أو نزولِ الحيضِ الأولِ عندَ فتاةٍ ليخبرَها بجاهزيتِها للحمل وللأمومةِ، وأنا لا أريدُ أن أتنجسَ هكذا بنجاسةٍ لا حولَ لي فيها ولا قوةَ، أريدُ أن أتنجسَ بإرادتي وإرادتِها ليكونَ للتنجسِ مذاقاً حلواً في نفسي ونفسِها، لا أريدُ أن أتنجسَ معها بأثرِ قبلةٍ واحدةٍ أو بأثرِ حضنٍ واحدٍ، أنا أريدُ أن نتنجسَ معاً بمواقعةٍ جسديةٍ كاملةٍ، بل بمواقعاتٍ كثيرةٍ، مواقعاتٍ أهزُّ فيها أضلاعَ صدرِها هزاً، ويشرقُ بعدَها وجهي ووجهُها، مضاجعاتٍ أرى فيها عريَها الكاملَ المُلهمَ لقلمي، وترى هي فيها عُريَ جسدي الرياضيَ المحرّضَ لريشتِها، مضاجعاتٍ يصطفقُ فيها فخذايَ المشعرانِ بفخذيها الأبيضينِ الأملسينِ اصطفاقاً تطربُ له أذناها وأذناي، أريدُ أن نخطئَ معاً قبلَ أن نموتَ خطأً كبيراً واحداً نسعدُ به معاً ثم نتوبُ بعدَهُ ثم نموتُ، وقد استبعدتُ أننا سنندمُ معاً، لأننا كنّا قبلَ سنينَ عديدةٍ وحتى في حلمي الليلةَ السابقةَ بها ومعَ طُهرنا الشديدِ وعفتِنا السامقةِ جائعَينِ جداً لبعضِنا البعض، ولمْ يفكرْ أحدُنا أو يصرّحَ حتى في الحلمِ بأنه سينازلُ حبيبَهُ في فراشِ الحبِ أو أنه سينتصرُ عليه، كنّا نريدُ أن يتحدَ جسدانا في مضاجعاتٍ لا عدّ لها ولا غالبَ فيها ولا مغلوب.
لقد بدأتُ أوطِّنُ نفسي على قبولِ الوضعِ الجديدِ، فصرتُ أتخيلُ خصومي يسبونني إذا ما انكشفَ أمري وأمرُها بقولِهم لي:
- يا النجس الطفس..
وقد داخلَ نفسي حينَها شعورٌ بالزهوِ والفخارِ وابتسمتُ، ولكنْ بمجردِ ما سمعتُ أصواتَ نسوةٍ تأتي من الغيبِ البعيدِ وترددُ:
- نوّارة النجسه الطفسه خانتْ زوجها المسكين وطايحه مع حبيبها الأولي أسويلم
ارتعبتُ من صدى ترديدِ تلكَ الأصواتِ في نفسِي واستوقفتُهُ صائحاً فيهِ بحدّةٍ:
- هيه يا عزيّز، قف، أريدك.
التفتَ إليَّ والتفتتْ معهُ غبرةُ الفسوقِ التي تكسو محياهُ، ولم أستطعْ أن أحصي وقتذاكَ عددَ الشياطينِ الذين كانوا يحيطونَ بهِ، ولكني خمّنتُ ألوانَ شعورِهِم الطويلةِ، وبرزَ لعيني بوضوحٍ شعرُ شيطانٍ أحمرَ وشعرِ شيطانٍ ثانٍ أصفرَ وشعرِ شيطانٍ ثالثٍ أزرقَ وشعرِ شيطانٍ رابعٍ أخضرَ وتذكرتُ فجأةً ما يقولُ الناسُ عن عزيز: إنه ركّابُ حلائبِهِ، يفجرُ بابنةِ أختِهِ في الخلواتِ بعلمِ أمِّها التي يجرُّ إليها الفحولَ في غفلةٍ من بعلِها، وأنه دائماً لا يكفُّ عن غوايةِ زوجةِ أخيهِ المغربيةِ التي تحتقرُهُ بالتعطرِ لها وبعرضِ وسامتِهِ وزينتِهِ لها إذا زارَ أخاهُ الذي لا يفرحُ بلقائهِ، وأنه لا يتورعُ عن ركوبِ ابنةِ عمِّه بعدما عرفَ بخلاعتِها، ويردُّ على معايبيهِ على فعلتهِ الشنيعةِ بقراءةِ هذه الآيةِ "الأقربونَ أولى بالمعروف"، ويصفونَهُ تارةً بأنه كلبٌ لا يتردّدُ من أن يَلغَ في وعاءِ صاحبِهِ، وتارةً أخرى ينعتونَهُ بأنه نملةٌ تمشي على الدسمِ، ومنهم من يصيحُ في القومِ محذّراً من اعتدائهِ وغدرهِ بعوراتِهم:
- إنه لا يُؤمَن حتى على عنزة.
وأعنفُ ما كانَ يُبثُّ عنه قولُ أبيهِ الذي لمّا يئسَ من أن يسكتَ عن التشهيرِ بهِ قام بسحرهِ حتى ماتَ من أثرِ السحرِ:
- ولدي أعزيز نجس طفس خنيث بُطُول حتى على أخواته أنا ما آمنه.
لم أجدْ ما أقولُهُ لهُ أو أتحدثُ معهُ عنه، وقد كانتْ له وللشياطينِ الذينَ يحيطونَ به رائحةٌ عفنةٌ جدًا لم أستطعْ تمييزَها، رائحةٌ تعلو على رائحةِ العطرِ الفاخرِ الذي تعطّرَ به، رائحةٌ راكبةٌ فوقَ عطرِهِ وعطورِ الشياطينِ الذين يُحيطونَ به جميعَهم، فقلتُ له وكأنني أكافئِهُ على حكمتِهِ التي قالَها لي من قبل:
- لا تسقي حمارك قبلك- يا عزيّز - يهج ويخليك.
فردَّ من فورِهِ:
- أعرف أعرف.
ولم ينطقْ أحدٌ من الشياطينِ..
أما حبيبتي نوّارةُ فقد عدتُ للاكتفاءِ بما كتبتْهُ لي في الرسالةِ التي أوصلتْها لي صديقتُها "ورد" منذُ عشرينَ سنةٍ انصرمتْ من عمري وعمرِها:
"إن زواجي منهُ مرغمةٌ لا يعني أن أخونَ مبدأي وثقتَهُ بي، خاصةً أن زواجَنا بعدَ غدٍ، وصدقّني يا سالم أنني المحتاجُة لمن يواسيني وليسَ أنتَ، أما أبي وأمي فقدْ وَضَعا المصحفَ مفتوحاً على ركبتي وأجبراني على أن أقسمَ باللهِ- وأنا أنشقُ- أن أنساكَ وألّا أفكَر فيكَ وألّا أكلمَك نهائياً ولا أتصلَ بك أبداً أبداً سواءً كانا حييّنِ أو ميّتينِ أو أحدُهما حيٌّ والآخرُ ميتٌ، وقدْ أقسمتُ لهما بوضوءِ صلاتي للفجرِ ودموعي تسقطُ من عيني و تبللُ آياتِ اِلله في جوفِ سورةٍ من السورِ لم أفطِنْ لاسمِها من شدةِ ما أنا فيهِ من ضيقٍ وحزنٍ وذهول"
قرأتُ الرسالةَ ربما للمرةِ الألفِ أو يزيدُ، وعدتُ للإيمانِ من جديدٍ بأنني محالٌ أن أتنجسَ مع نوّارة، وأنها ستكونُ زوجتي في الجنةِ كما أخبرتني بذلكَ في الأيامِ الأخيرةِ العصيبةِ التي سبقتْ خضوعَها لتأديةِ الحلفِ العظيم.
الأثنين ١١ يناير ٢٠٢١ م
٢٧ جمادى الأولى ١٤٤٢ هـ
الخامسة والنصف مساءً