تم تدشين موقع القصة العربية بشكله المطور؛ الذي يحتوي على الكثير من الخدمات، التي تتماشى مع رغبة أعضائه، وبما ينسجم مع وسائل التواصل الاجتماعي. سيكون الموقع للتصفح والقراءة الآن، ريثما ننتهي من برمجة الخدمات المدرجة في جداول التحديث. قريباً سنعلن عن كيفية الاشتراك، ووضع النصوص وتعديلها، وتفاصيل السيرة الذاتية.. ومزايا أخرى.
الموتى لا يتحركون في الصور
title

مريض والموت يتربص بي. ممددٌ على السرير والدم يحتك بجدران الشرايين كأنما يجرف أسلاكاً شائكة. يتسلل النَفَسُ بطيئاً ويعود بتباريحِ الوجع، وجسدي المثقل بالثمانين ينوء بالعقود الملقاة على كاهله. عَرَقي المتكتل على جبيني المتغضن يتناكب على عنقي ليغرق وسادتي. مُرهق بالهزال، متقد بالحمى، مُنهك بالتعب، والروح المتمردة تُنهشُ من الجسد المتقادم باستسلام.

الرؤية تبدو أمامي مموهة، الوجوه المتحلقة حولي لا أستطيع تبينها. يحيطون بالسرير كما تحيط الحشرجات بحلقي المتيبس. تلتمع أعينهم مع الأضواء الخافتة وتتمايل رؤوسهم بحزنهم المضطرب ويتبادلون الإمساك بيدي أو الهمس في أذني دون أن أعرفهم.

الصورة على الجدار هي الوحيدة التي أعرفها، زوجتي المحاطة بأبهة الموت منذ عشرٍ بائسة. تقتعد جسدها على كرسيٍ كلاسيكي ضيّق، وتدّلي شعرها من على كتفها الأيسر. تعقد ساعديها على بطنها وتزم شفتيها نحو جانب وجهها الأيمن فتتكور وجنتها بابتسامةٍ هادئة، ثابتة، ومتجمدةٍ إلى الأبد.

هذه الصورة استنزفت ذاكرتي، بدأتُ معها حزناً مُضاعفاً منذ أن نزعتها عن جدار الصالون وانفردت بها في حجرة النوم. كان ذلك بعد أن انتهت الثلاث الباكية فكلفتُ نفسي شعيرةَ الولاء وأنا أطوف محلات التذكارات والصور مُجللاً بقداسة الفقد كمؤمنٍ يرى الكعبة لأول مرة. أوّزع حزني على الأرصفة وأتعكز عصا الصبر وأنا أبحث عن إطارٍ يليق بالحزن الذي خلفته لي.

إطارها القديم لم يعد مناسباً، ينتصب بفخامةٍ وشموخ ويفضح سعادة العقود الخمسة التي قضيناها معاً. بُنيّاً يوحي بالملكيّة وعريضاً يسترعي الانتباه، منمنماً بنقوشٍ دقيقة موشاةٍ بالذهب، وكل هذه الفخامة لا تليق بالموتى ولا بحزننا عليهم.

صاحب الدكان الذي باعني الإطار الجديد لم يكن يعلم بحزني، ظل يستعرض الإطار تلو الآخر ويبدي استعداده لجعله مناسباً لمقاسات الصورة. أول الأمر انتخب لي إطاراً بنياً يشبه إطارها القديم وسرعان ما قرأ على وجهي رفضي إياه دون أن أتكلم. عاد بعدها بآخرٍ لونه أبيض يقطعه طولياً خط ذهبي لامع ولكنه لم يجد مني تشجيعاً. وعندما أعياه البحث دون أن يعرف ما أريده، سألني بجملةٍ ساخرة عما أبحث عنه فأجبته وأنا أنظر إليه بجمود أنني أريد إطاراً مناسباً لصورة زوجتي المتوفية.  

أخلده الصمت حينها، سرعان ما لوى عنقه وأبعد وجهه عني وهو يتهاوى في فخ ظرافته المُحرَجة. تلبد بتلعثمه وظل يقلب أعمدة الأطر بصمت محاولاً ألا ينظر إليّ وهو يمسح بمنديلٍ حائل اللون جبينه المتعرق وعندما أخرج لي إطاراً أسوداً، دفعتُ له قيمته وغادرته بسرعة، وكم كاناً ممتناً لرحيلي.

أسودٌ مصمت، كامدٌ لا شية فيه، مهندم بكآبة ويحترم الحزن ولا يثير مثقال ذرةٍ من سعادة. يُغلق عليها منافذ الهرب من أمامي ويرفد ذاكرتي الموبوءة كترياقٍ ينتشلها من خنادق النسيان السحيقة كلما أوشكتْ على الوقوع فيها. اختزلُ منه في مخيلتي ابتسامتها، واستدارة وجنتها، وأسرّحُ شُعيراتها النافرة من فوق كتفها. أقرأ آيات الصبر والتسلي بالنظر إلى ما بداخله مع بداية كل يوم، واستودعه حزني قبل أن أغيب في متاهات النوم.

هل سبق أن استشعرتَ وجود الموتى؟

هل سبق أن تذكرت ابتساماتهم؟

إنها تشعرك بوجودهم معك رغم موتهم، نراهم يعلقونها على وجوههم عندما نحاول اللحاق بصورهم في ذاكرتنا. نسمع أصواتهم ونميّز ضحكاتهم ونتذكر أحاديثنا معهم. ما بقي لنا منهم ولخيالاتنا الموجعة برحيلهم. نزيّن أطيافهم لنُطمئِنَ أنفسنا أنهم بخير وأنهم هناك، في الأعلى، يرفلون بسندسِ السعادة ويحلقون في أرجاء الجنة. إنها مختلفة عن صورهم التي نعلقها على الجدران، فهذه الأخيرة ليست سوى ترفاً من حزن نؤكد به إخلاصنا لهم أمام الناس مهما توارت بهم الأيام.

يا لذاكرة الضوء الرديئة التي اقترفتها ولم أتب عنها رغم عشرٍ من وجع، لم أكد أبدأها معها حتى قضيتها مستجدياً فجائعي وأنا أعلّق انعكاسها على الجدران. تكيد لي ابتسامتها الرتيبة حتى فقدتُ لذة الضحك معها والشعور بها. أتابع ذات الهيئة والصورة المحنطة، وأرى جسدها كما كان دون أرى شيئاً، فالموتى لا يتحركون في الصور. لحظةٌ من وقتٍ مغترب لم يتبق منه شيئاً، لا صوت، لا رائحة، لا حركة، بل صمت مطبق لا يلبث أن يجرني معه في متاهات الغياب.

شعرتُ أني أتنفس من سم خياط وأنا أتأمل الصورة. تسلل البرد وانسحقتُ تحت وطأة الألم. ساقي تلتف بالأخرى وجسدي كأنما يُنزع منه جسدٌ آخر. صدري المنقبض يزدحم بالحشرجات ويُطبقُ الاختناق بيديه على عنقي. أحاول أن أتنفس ولكني لا أستطيع. الشهيق المتردد يعبئ رئتيّ الممتلئتين سلفاً ولا أستطيع إخراجه. رأسي يغلي كمرجل وعيناي انقلبتا إلى الداخل. وعندما بدأت النهاية؛ أطلقتُ نفساً طويلاً تسللتُ معه متحللاً من الجسد. أتسرب من تحت الأغطية وأنسكبُ ككائن هلامي من على السرير وأعبر أرض الحجرة لأتسلق الجدار واقتحم الصورة. توقفت هناك بعد أن عبرتُ إطارها، بجانبها، أنظر إليها فإذا بها تتحرك وتبتسم لي. أدرتُ وجهي نحو جسدي المسجى على السرير وعرفت المحيطين بي كلهم. كانت صيحاتهم البائسة تملأ الحجرة ولكن ذلك لم يمنعني من الابتسام بجانبها، ابتسمتُ هناك، هادئاً، ثابتاً، متجمداً إلى الأبد.

التعليقات
()